سرُّ التكرار في سورة الكافرون

السؤال
عندما نقرأ سورة الكافرون نجد فيها تكرارًا، وسؤالي هو: ما سر التكرار في سورة الكافرون؟
الجواب

جاء في (صحيح البخاري): ({لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] الآن، ولا أُجيبكم فيما بقي من عمري، -يعني: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في الحال، ولا في المستقبل- {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] وهم الذين قال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64]) [6/178]؛ لأن {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يعني: إخبار عن الحال والاستقبال، والمُخبِر هو الله -جل وعلا- الذي يعلم ما سيكون.

وفي (تفسير الطبري) قال: ({لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} من الآلهة والأوثان الآن، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} الآن، {وَلا أَنَا عَابِدٌ} فيما أستقبل {مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 4] فيما مضى، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} فيما تستقبلون أبدًا {مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5] أنا الآن، وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك؛ لأن الخطاب من الله كان لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم الله أنهم لا يؤمنون أبدًا).

والقرطبي في تفسيره يقول: (كان التكرار في {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}؛ لأن القوم كرَّروا مقالهم مرةً بعد مرة، والله أعلم. وقيل: إنما كُرِّر بمعنى التغليظ، وقيل: بمعنى: {لا أَعْبُدُ} الساعة {مَا تَعْبُدُونَ}، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} الساعة {مَا أَعْبُدُ}، ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ} في المستقبل {مَا عَبَدتُّمْ}، {وَلا أَنْتُمْ} في المستقبل {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، قاله الأخفش والمُبَرِّد).

وفي (مجموع الفتاوى) لشيخ الإسلام ابن تيمية: (فقوله: {لا أَعْبُدُ} يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل، وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ} يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل، كلاهما مضارع، وقال في الجملة الثانية عن نفسه: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} فلم يقل: "لا أعبد"، بل قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ} ولم يقل: "ما تعبدون"، بل قال: {مَا عَبَدتُّمْ}، فاللفظ في فعله وفعلهم مغايرٌ للفظ في الجملة الأولى، والنفي بهذه الجملة الثانية أعم من النفي بالجملة الأولى، فإنه قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} بصيغة الماضي، فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهة شتى وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر-؛ لأنها عبادات غير مبنيَّة على أسس ثابتة، ونازلة من إله حكيم خبير، فتجدهم يتخبَّطون ويتنقَّلون من آلهة إلى آلهة-، كما أن كل طائفة لها معبودٌ سوى معبود الطائفة الأخرى فقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة الماضية، كما تبرَّأ أولًا مما عبدوه في الحال والاستقبال، فتضمَّنت الجملتان البراءةَ مِن كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماضٍ وحاضر ومستقبل)، والله أعلم.