شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (126)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم، شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: في الحلقة الماضية كنا مع المستمعين الكرام في حديث «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» أشرتم إلى شيء من ألفاظه، توقفنا عند قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وإنما أنا قاسم والله -عز وجل- يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»، لعلنا نستكمل ما تبقى يا شيخ.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا الحديث العظيم يحتاج إلى حلقات كثيرة؛ لاستيفاء مطالبه، وبالمناسبة الوزير ابن هبيرة لما شرح الصحيحين في كتابه الإفصاح عن معاني الصحاح، لما وصل إلى هذا الحديث ذكر تحت هذا الحديث جميع أبواب الفقه وأحكامه العملية، وذكر ما في هذه الأبواب من مسائل، وذكر ما في هذه المسائل من أقوال لأهل العلم، ما فيه من اتفاق واختلاف، وطبع ما يتعلق بهذا الحديث في مجلدين، فهذا كتاب لا شك عظيم، ويحتاج إلى حلقات، لكن أظن أن وقت البرنامج لا يسمح بالإتيان بكل ما يتعلق بهذا الحديث، فنقتصر من ذلك على ما يوضح معاني هذا الحديث، ويفيد السامع إن شاء الله تعالى.

الحصر في الحديث «وإنما أنا قاسم» سبقت الإشارة إلى أنه حصر إضافي، وليس بحصر حقيقي؛ لوجود صفات أخرى للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا الحصر الإضافي يقول الكرماني: إنه قيل في مناسبة معينة؛ لدفع ما يتوهمه السامع، وما يخطر على باله، فقد يعتقد السامع أن النبي -عليه الصلاة والسلام- معطٍ، فجاء هذا الحصر لنفي هذا الاعتقاد، وبيان النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما هو قاسم، والمعطي هو الله -عز وجل-. قد يتصور السامع أو قد يخطر على بال السمع أنه معطٍ وقاسم في آن واحد، فأراد النبي- عليه الصلاة والسلام- بهذا الحصر أن ينفي أنه معطٍ، وأنه مجرد قاسم، يقسم ما يقدره الله -جل وعلا- من هذه العلوم والمعارف بين خلقه الذين سمعوه -عليه الصلاة والسلام-، والذين سمعوا كلامه بعده أيضًا.

لا يلزم أن يكون هذا الخطاب خاصًّا بالصحابة، يعنى هو أيضًا قاسم بالنسبة لمن يأتي بعد الصحابة، ويطلع على كلامه، فكلامه سواء أكان مسموعًا أو مقروءًا هو هذه صفته -عليه الصلاة والسلام- في هذا الباب، هو يقسم ما قدره الله -جل وعلا- وأعطاه لعباده.

وقال الشيخ قطب الدين الحلبي في شرحه على الصحيح: «إنما أنا قاسم» يعنى أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يستأثر بشيء مما لله، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود عليكم»، القطب الحلبي ذهب إلى أن المراد بالقسمة، قسمة الأموال الحسية وما تقدم من كلامهم منصب على قسمة العلوم والمعارف المعنوية، وإنما قال: أنا قاسم تطييبًا لنفوسهم لمفاضلته في العطاء فالمال لله، والعباد لله، وأنا قاسم بإذن الله ماله بين عباده. وإنما قال: أنا قاسم، يعنى مقتضى وظيفة القاسم والقسام أن يعدل في القسمة، لكن دلالة قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الله يعطي» هل يلزم من هذا أن يكون يعدل في القسمة بين من يعطيه الله -جل وعلا- أكثر مع من يعطيه الله -جل وعلا- أقل؟ ألم يثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أعطى بعض المؤلفة قلوبهم أموالًا طائلة، ولم يعطِ بعض الناس شيئًا، وأعطى بعضهم شيئًا يسيرًا؟ هل يقال إن هذا ليس فيه عدل بين الرأي؟

الله -جل وعلا- هو المعطي، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قاسم أي ينفذ، وسبق في حديث سعد: أعطى رهطًا وسعد جالس، ما لك عن فلان إني لأراه مؤمنًا. المقصود أن مثل هذا، هذا معنى أن الله -جل وعلا- هو المعطي، الآن يدخل اثنان ظروفهم واحدة على شخص ممن أعطاه الله -جل وعلا- شيئًا من المال، وهي من الزكاة مثلاً، المال مصروف مصروف، فيوجهه الله -جل وعلا- إلى أن يعطي هذا مبلغًا، وأن يعطي الثاني أكثر أو أقل، هل يلزم من هذا أن يقال: إن هذا ما عدل بين الاثنين وظروفهم واحدة؟ لا يلزم عنه ذلك، الله -جل وعلا- هو المعطي، البشر هم مجرد تنفيذ {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور:33]، فهم وسائط.

يقول: وإنما قال: «وإنما أنا قاسم» تطييبًا لنفوسهم لمفاضلته في العطاء، يفاضل بينهم في العطاء، بعض الناس يعطيه لرقة في دينه، لضعف في إيمانه لتقوي إيمانه، وبعض الناس لا يعطيه أو يعطيه أقل ويكله إلى ما في قلبه من إيمان؛ لأنه لا يخشى عليه أن يزيغ. وإني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، يكل هذا الرجل لما عنده من إيمان، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو أكمل الخلق وأشرف الخلق وأعدل الخلق لا يُظن به أنه إذا أعطى فلانًا أكثر من فلان أنه جار، ولم يعدل بين الرعية، إنما العلة واضحة، «إنما أنا قاسم والله يعطي».

الحقوق المستحقة التي تجب للأشخاص بأعيانهم، يجب التعديل فيها. حقوقهم التي لهم أجرة مثلاً، أدوا أعمالًا، قسم بينهم العمل بالسوية واستحقوا الأجرة بالسوية، لا يجوز التفضيل بينهم، ولا يجوز أن ينقص بعضهم على بعض، لكن هذه أموال من بيت المال، المقصود منها استعمالها واستغلالها في الدعوة إلى الله -جل وعلا-، فصرفها فيما يحقق هذا الهدف. ولا شك أن بعض الناس يحتاج إلى زيادة ليؤلف، وبعضهم لا يحتاج ويوكل إلى إيمانه، وبعض الناس يأخذ الأموال ويعطى الأموال فتضره. ليس إعطاء المال على كل حال مصلحة، فالله -جل وعلا- يعطي هذه الأموال من يحب ومن لا يحب، لكن العبرة مما يعطى مما يقر في القلوب من إيمان، وما يتبع ذلك من عمل صالح، وهذا نظر إلى حقيقة القسمة، يعني حقيقتها حسية، وأنها تكون في الأموال، والكلام الأول مناسب لأول الحديث، فقائله نظر إلى المعنى -الكلام السابق الذي تقدم قبل هذا- والله يعطي. قال الكرماني: تقديم لفظ الله الذي هو لفظ الجلالة على الفعل، تقديمه على العامل مفيد للتقوية عند السكاكي، السكاكي من هو هذا؟

المقدم: من علماء اللغة.

السكاكي له أشهر كتاب في البلاغة، وكل من جاء بعده دار في فلكه، التلخيص، تلخيص كتاب السكاكي، يعنى ما من شخص يبحث في علوم البلاغة إلا ويرجع، يشرح ويعلق ويحشي، كم شُرح هذا الكتاب، وكم حُشِّي عليه من حواشٍ، وكم نكت عليه من نكت، دار الناس في فلكه. صار محط أنظار الناس الذي هو التلخيص من كتاب السكاكي اسمه مفتاح العلوم.

يقول: تقديم لفظ الله عليه -يعنى على الفعل- مفيد للتقوية عند السكاكي، يعنى أنه لا يفيد التخصيص، يقول: ولا يحتمل التخصيص، أي الله يعطي لا محالة، فهو مفيد للتقوية، ولا يفيد الاختصاص بمعنى أن غيره أيضًا يعطي، على كلام السكاكي أنه لا يختص العطاء بالله -جل وعلا-. وإن أراد المعنى اللغوي فصحيح، ما يقال: إن فلانًا أعطي فلانًا؟ يقال: إذًا العطاء لا يختص بالله -جل وعلا-، وإنما فلان يعطي، وزيد يعطي، وبكر يعطي وهكذا. لكن الله يعطي تقديم لفظ الجلالة على الفعل، يدل على التقوية فكأنه قال: الله يعطي لا محالة. وأما عند الزمخشري فيحتمله، يحتمل الاختصاص، وحينئذ يكون معناه: الله يعطي لا غيره، يعنى لا يوجد من يعطي غير الله -جل وعلا-، والعطاء الحقيقي إذا نظرنا إلى مجرد إطلاق الفعل، يطلق على الخالق والمخلوق، لكن إذا نظرنا إلى أن المعطي الحقيقي، وأن المخلوق لا يمكن أن يستقل بالعطاء، فالمعطي حقيقة هو الله -جل وعلا- وهو الرازق.

وفائدة حذف مفعول يعطي لجعله كالفعل اللازم إعلامًا بأن المقصود منه بيان إيجاد هذه الحقيقة أي حقيقة الإعطاء، لا بيان المفعول أي المعطى، ويحتمل حذفه التعميم في المعطى، يعنى الله يعطي. الله -جل وعلا- يعطي ماذا؟ يعطي علمًا، يعطي إيمانًا، يعطي أموالًا، يعطي..

المقدم: توفيقًا.

 من كل وجه، فحذف المفعول؛ ليبقى في كل ما يحتمله اللفظ مما يعطى، فالحذف فيه للتعميم.

«ولن تزال هذه الأمة» أي أمة الإجابة، «قائمة» النصب بالخبر تزال، والفرق بين زال يزال، وزال يزول أن الأول من الأفعال الناقصة، ما زال، وما يزال. لكن زال يزول بمعنى أن الأول من الأفعال الناقصة ويلزمه النفي بخلاف الثاني زال بمعنى أنه انمحى أو ذهب.

«على أمر الله» على الدين الحق، «لا يضرهم من» أي الذي خالفهم، «حتى يأتي أمر الله»، قال القسطلاني: حتى غاية لقوله: لن تزال، غاية لن تزال هذا النفي مغيًّا بغاية وهو ما بعد حتى، أقول: لن تزال، إلى متى؟ هناك غاية حتى يأتي أمر الله هذه هي الغاية، لكن ألا يشكل على هذا لا تزال هذه الطائفة، لا تزال هذه الأمة قائمة حتى يأتي أمر الله؟ معنى هذا لو أخذنا بمفهوم هذه الغاية أنهم بعد أمر الله إذا أتى أمر الله أنها تزول أو تزال؛ لأن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها هذا الأصل، لا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله أي على الدين الحق حتى يأتي أمر الله، مفهومه أنه إذا أتى أمر الله تغيرت عن الدين الحق، لكن هل هذا المفهوم مراد؟

حتى يأتي أمر الله.

 قال القسطلاني: حتى غاية لقوله: لن تزال، واستشكل بأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها؛ إذ يلزم منه ألا تكون هذه الأمة يوم القيامة على الحق إذا جاء أمر الله الذي هو يوم القيامة.

بعد الغاية في يوم القيامة أنها لا تكون على الحق، لكن هل هذا مراد؟ لا، قطعًا، وأجيب بأن المراد من قوله: أمر الله التكاليف، وهي معدومة فيها، أو المراد بالغاية هنا تأكيد التأبيد حتى يأتي أمر الله، تأكيد التأبيد على حد قوله تعالى: {ما دامت السموات والأرض}، فأكد التأبيد بقوله: إلا ما شاء ربك، يعنى هل هذه غاية إلا ما شاء ربك، أو أنها من باب تأكيد التأبيد؟ تأكيد التأبيد بلا شك، أو هي غاية لقوله: لا يضرهم؛ لأنه أقرب، ويكون المعنى حتى يأتي بلاء الله فيضره حينئذ، يأتي أمر الله يعنى بلاء الله، من أوبئة، من حروب، فيضرهم؛ لأن الصالح قد يتضرر من الحروب، من الأوبئة، وهذا ضرر ظاهر، لكنه في الحقيقة قد يكون ضررًا مشاهدًا، ضررًا في عرف الناس واعتبارهم، لكنه في الحقيقة رفعة لهم، هذا الضرر رفعة لهم، فيكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها.

وفي فتح المبدي للشرقاوي، لكن ما موضوعه هذا؟ شرح مختصر الزبيدي الذي بأيدينا، لكن باعتبار أن تعويلنا عليه قليل، واعتمادنا على الشروح الأصلية يجعل الإخوان ينسونه، وإلا فهو شرح للكتاب الذي بين أيدينا.

فتح المبدي للشرقاوي فيه المراد ببلاء الله فتنة الدجال، فإنها ربما أضرت بعض الأمة في دينهم- والعياذ بالله تعالى-، وقيل: المراد بأمر الله: الريح اللينة التي تأتي قبل يوم القيامة فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، والمراد بالغاية تأكيد التأبيد، كما مر، وحينئذ فلا يعارض هذا الحديث ما ورد من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد: الله الله». وقوله: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس»؛ لأن تلك الريح تأتي قرب يوم القيامة، وما ذكر في الحديثين عند القيامة نفسها، لا قربها.

الآن ماذا ظهر لنا من هذه الغاية؟ حتى يأتي أمر الله.

المقدم: الذي ظهر أنها تأكيد التأبيد، وليس انقضاء الغاية.

تأكيد التأبيد، وليس المراد به يعنى مفهوم الغاية غير مراد، أنه إذا جاء أمر الله أنهم يضرهم من خالفهم أو يتضررون، هذا غير مراد. لكن أنا عندي شيء آخر، عندي أن الغاية في هذا الحديث إلى نهاية وقت الخوف لا يضرهم أحد، فإذا انتهى وقت الخوف بمجيء أمر الله -جل وعلا- هل يتصور ضرر؟ لا يتصور ضرر. إذا استأجر شخص رجلاً يحرسه في سفر، يقول: أنا أحرسك إلى أن تصل البلد، إذا وصل البلد هل هو بحاجة إلى من يحرسه؟ وصل إلى الأمن التام، فنقول: لا يضرهم من خالفهم إلى مجيء أمر الله الذي يحصل فيه الأمن التام الذي لا يتصور فيه ضرر.

أقول: عندي: أن الغاية في الحديث هو نهاية وقت الخوف، وهو قيام الساعة العامة أو ساعة كل واحد منهم الخاصة بموته، فإذا أمنوا من الضرر بانتهاء وقت الخوف فأمنهم في زمن الأمن التام من باب أولى. وفي شرح ابن بطال: قوله: «ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله» يريد أن أمته -عليه الصلاة والسلام- آخر الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها وضعف الدين فلابد أن يبقى من أمته من يقوم به، من يقوم بالدين، والدليل على ذلك قوله: «لا يضرهم من خالفهم»، وفيه أن الإسلام لا يذل، بل هو عزيز إلى قيام الساعة، وإن كثر مطالبوه، يعنى وإن تداعت الأمم على أمة الإسلام، فالإسلام لا يذل ولن يذل، يعنى وإن ذل أهله في بعض الأوقات، أو في بعض البلدان، أو في بعض الجهات كما هو مشاهد الآن، قد يذل أهلها، لكن الإسلام يبقى عزيزًا شامخًا في نفوس أهله وفي نفوس أعدائهم. يعنى أهله وهم يحسون بهذا الذل، هل هذا الإحساس إحساس بأن دينهم ذليل؟

 لا، العدو حينما يتهافت على هذه الأمة العزيزة في الأصل وإنما ذلها عارض؛ لأنها بعدت عن تعليم هذا الدين، فلو رجعت رجع إليها هذا العز، الأمة لن تحس بذل للدين، وإن أحست بذلها؛ لبعدها عن هذا الدين. العدو وهو يريد القضاء على هذا الدين وأهل هذا الدين هو في قرارة نفسه مقر معترف بعظمة وعز هذا الدين.

قال الكرماني: فإن قلت: هل في الحديث دلالة على حجية الإجماع؟ فيه أم ما فيه؟ يقول: قلت: نعم؛ لأن مفهومه أن الحق لا يعدو الأمة، الحق لا يعدو هذه الأمة، وقد استدل به بعض العلماء على امتناع خلو العصر عن المجتهد.

 وقال ابن بطال: وفي الحديث فضل العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله؛ لأنه يقود إلى خشية الله -جل وعلا-، والتزام طاعته وتجنب معاصيه. يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]، وقال ابن عمر رضي الله عنهما للذي قال له فقيه، قال: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، نظير ما تقدم نقله عن الحسن. الراغب في الآخرة، هذا الأثر المترتب على الفقه؛ لأن الفقه هو العلم بالأحكام من دون هذا الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، كلا فقه. ولمعرفة العلماء بما وعد الله به الطائعين، وأوعد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده اشتدت خشيتهم، ولا شك أن معرفة الله -عز وجل- تبعث على خشيته والخوف منه، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، وله أرجى.

الخشية كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مدارج السالكين: الخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]، فهي خوف مقرون بمعرفة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية».

 يقول الحافظ ابن حجر: هذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام، أحدها فضل الفقه في الدين، وثانيها أن المعطي في الحقيقة هو الله، وثالثها أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدًا. يعنى هذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام: الأول: فضل الفقه في الدين، وهذا ظاهر. الثاني: أن المعطي في الحقيقة هو الله -جل وعلا-. الثالث: أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدًا، وهو أيضًا ظاهر.

فالأول لائق بأبواب العلم على ما تقدم، الأول فضل الفقه في الدين لائق بأبواب العلم، ولذا أورده البخاري في كتاب العلم. والثاني لائق بقسم الصدقات، «إنما أنا قاسم، والله يعطي»، ولهذا أورده مسلم في الزكاة والمؤلف الخمس. والثالث لائق بذكر أشراط الساعة «حتى يأتي أمر الله»، وقد أورده المؤلف في الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لالتفاته إلى مسألة عدم خلو الزمان عن مجتهد، وأن المراد بأمر الله هنا الريح التي تقبض روح كل مؤمن، كل من في قلبه شيء من الإيمان، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة. وقد تتعلق الأحاديث الثلاثة بأبواب العلم، يعنى الجمل الثلاث قد تتعلق بأبواب العلم، بل بترجمة هذا الباب خاصة، من جهة إثبات الخير لمن تفقه في الدين، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح الله عليه، والله معطٍ، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودًا حتى يأتي أمر الله. هنا ارتبطت الجمل الثلاث برابط واحد.

 وقد جزم البخاري بأن المراد بهم -هذه الطائفة- المراد بهم أهل العلم بالآثار، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدرى من هم، وقال القاضي عياض: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث، لكن ليت القاضي عياض وهو يقول هذا الكلام سلم في بعض مسائل الاعتقاد من مخالفة مذهب أهل السنة من تأويل بعض الصفات.

وقال النووي: يحتمل أن تكون هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، يعنى ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد، شجاع يجاهد في سبيل الله يُنصر به الدين، وفقيه، ومحدث، وزاهد، وآمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر، وغير ذلك من أنواع الخير كلهم يدخلون في هذه الطائفة. يقول: ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد، بل يجوز أن يكونوا متفرقين في الأقطار.

المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الدكتور، انتهى وقت البرنامج، وبقي معنا مجموعة من القضايا فيما يتعلق بهذا الحديث نرجئها بإذن الله إلى حلقة قادمة، وأنتم على خير.

 أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام حلقتنا، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم، وأن يفقهنا وإياكم في الدين، ويجعلنا وإياكم ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، شكرًا لطيب متابعتكم، نلقاكم بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة، وأنتم على خير.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.