تعليق على تفسير سورة آل عمران (21)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

ذكرت في مناسبات كثيرة أن الطيبي شارح المشكاة والمُحشِّي على الكشَّاف في أفضل حاشيةٍ كُتِبَت عليه طُبِعَت أخيرًا، يجلس لدرس التفسير من صلاة الفجر إلى أذان الظهر، ولذلك ما نستغرب إذا قيل في تراجمهم: إنه قُرئ عليه البخاري مائة مرة، وتفسير الطبري كذا مرة، وتفسير كذا.

الوقت! وانظر الآن بقي على الأذان نصف ساعة كما يقول القائل:

لَا تَعْرِضَنَّ لِذِكْرِنَا مع ذِكْرِهِمْ
 

 

لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَى كَالْمُقْعَدِ
 

الإسماعيلي في ترجمة الذهبي له في (تذكرة الحُفَّاظ) يقول الذهبي: من نظر في حال هذا الرجل جزم يقينًا أن المتأخرين على يأسٍ تام من لِحاق المتقدمين، ولا شك أن هذه سُنَّة إلهية لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، الملهيات والمشغلات.

وقد يقول قائل: إن الوقت هو هو ما يتغير، يعني المغرب ساعة ونصف طال الزمان أو قصر، لكن البركة في هذه الساعة يُقضى أشياء أكثر بكثير من الساعة التي يقضيها المتأخر، وبعض الناس يقضي في الزمن اليسير ما لا يقضيه غيره في أضعاف هذا الزمن، والبركة من الله- جلَّ وعلا-.

فعلى الإنسان أن يجتهد في اغتنام الوقت، ولا يجعله يضيع من بين يديه سُدى كما قال الشاطبي:

فَيَا ضَيْعَةَ الأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلاَ

في الشاطبية، وهذا هو الحاصل.

أنا أعرف أن من بينكم من هو حريص على اغتنام الوقت، ويتقطَّع قلبه على ذهابه، لكنه إذا حضر كُتِب له الأجر من خروجه من بيته، ما عليه إلا أن يستغل الوقت كاملًا بما ينفعه من قراءة وذِكر، ويحصل له الخير العظيم، كونه يضيع الوقت بسبب غيره لا يُحاسب عليه.

مرارًا أحاول أن أختصر الوقت الضائع، ويتيسر لي ذلك أيامًا، ثم نعود كما كنا، فليس للإنسان إلا ما كُتِب له وقُدِّر عليه، ولا يسلم من الملامة إلا إذا كان خارجًا عن إرادته، ولا يقول قائل: إننا نجلس بدون فائدة، الفائدة موجودة، لكن حضور هؤلاء الطلاب وتجشُّمهم المصاعب يُحتِّم على الإنسان أنه يُبادر لهم، لكن إذا كان هذا في المقدور، أما إذا كان في غير المقدور وأنتم... الشيخ من عشرين سنة، الشيخ سليمان من عشرين سنة أو أكثر؟ أكثر؛ لأنه من سنة عشرين، أليس كذلك يا شيخ؟

طالب: اثنين وعشرين.

اثنين وعشرين، وجاره ثلاثين والطريقة هي هي، الله يتوب علينا.

أدركنا شيوخنا -رحم الله من مات منهم وحفظ ومتَّع الباقين بالصحة والعافية مع ازدياد من الأعمال الصالحة وإيانا وجميع المسلمين- خمس دروس باليوم، مشايخ عندهم خمس دروس في اليوم، صحيح أن الأمور تغيرت والترتيبات الحياتية تأثرت بلا شك، فكان القضاة وغيرهم ممن يعمل في خدمة المسلمين من العلماء خمسة دروس في اليوم، بعد كل صلاة درس، وبعضهم إذا انتهى من درس الفجر بعد طلوع الشمس وذهب إلى بيته وارتاح قليلًا رجع الضحى يُدرِّس في المسجد؛ لأن ترتيب أعمالهم الحياتية يختلف عنَّا، ما عندهم دوام، ومرتب من وقت كذا إلى كذا، لكن طالب الحاجة إذا جاء في آخر النهار يجد الشيخ في المسجد ويستفتيه أو يستقضيه إذا كان قاضيًّا، والأمور ماشية على هذا الأساس.

لكن مثل هذا الترتيب القديم هل يمشي في زماننا؟ ما يمشي، ما فيه كتابات، ولا فيه أشياء، ولا تنظيمات، الناس يرضون بما يُقال لهم في ذلك الوقت.

واحد من القضاة السابقين جاءه موظف الإمارة [6.15] ومعه رجل يقوده، قال: إن هذا قتل ابن عمِّه، وهو يتوضأ لصلاة الظهر، قال: ما الذي حداك لهذا؟ قال: والله يا شيخ الشيطان، هل لك من عذر؟ هلك من...؟ هذا على طريقتهم، قال: لو صليتم العصر اقتلوه.

نعرف قضايا الآن لها سنون، قضايا القتل تحتاج إلى تثبُّت، وتحتاج إلى كذا، والناس الصراحة عندهم والصدق قَل ما هو مثل الأول، يأتي ماعز يتردد إلى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- في مجلسٍ واحد مرارًا، يقول: إنه زنى، ويقول إنه كذا، ويستثبته الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- مرارًا علَّه أن يعتذر، علَّه أن ينكص عن إقراره، ويُصر إلا أن يُقتًل فيُرجَم.

لكن الآن تغيرت الأمور، وتحتاج القضية إلى أشهر، بل أحيانًا إلى سنين، والناس يلومون القضاة يقولون: هذه قضية واضحة ما تحتاج ولا يومًا واحدًا، امرأة قتلت زوجها ماذا صار؟ وهذا أمرٌ ثابت، ما يدريهم أن القضايا يحتف بها أشياء، ويسمعون كلامًا عابرًا من عامة الناس في المجالس، ويبنون عليها الأحكام، القاضي لا، القاضي مسئول أمام الله -جلَّ وعلا- عن هذه القضية، فعليه أن يتثبَّت، وشيوخنا موجودون القضاة الله يعينهم.

المقصود أننا نسمع أن الكُتب تُقرأ مرارًا، قُرئ تفسير ابن كثير مثلًا من شيوخنا الموجودين، يقول: قُرئ عليّ أربع مرات تفسير ابن كثير، والذي يقول: قُرئ عشر مرات، ما شاء الله البركة والوقت مُستَغَل، والحرص من الطالب ومن العالم والمتعلِّم موجود، فما بقي عذر.

وأنا بهذا الكلام أُريد أن أُقدِّم اعتذاري لكم في حبسكم هذه المدة وأنتم على خير -إن شاء الله- مع المحاولة في أن نُعدِّل شيئًا من هذا.

أبو عبد الله يعرف أننا حاولنا مرارًا وتكرارًا.

طالب: ............

الله يعفو ويسامح.

طالب: ...........

يقول أبو عبد الله: عدِّل جبلًا ولا تُعدِّل طبعًا، هكذا تقول؟

طالب: ..........

هذا الذي شيَّبك؟ شيَّبك هود وأخواتها؟

شيَّبك تأخير الدروس؟

طالب: ...........

هذا أنت مؤذِّن جاءٍ من المسجد إلى المسجد.

الله يتوب علينا، ويعاملنا وإياكم بالعفو ويستعملنا وإياكم فيما يُرضيه.

أنا سألت واحدًا من طلاب العلم يحضر درسًا في بلدٍ مجاور لبلده عند شيخٍ ملأ الدنيا علمًا وتأليفًا، وقلت له: هل الشيخ يستغل الوقت كله في الدرس؟ قال: والله أنا أصلي بمسجدي بديرتي وأُورِد وأروح وأجلس أنتظر الشيخ مع الطلاب، والشيخ بالمسجد، الله يعفو ويسامح.

طالب: الشيخ قد يستفيد من الطلاب بكثرة القراءة عليه.

هو يستفيد من الطلاب، لكن ما هو بهذا الموضوع، إذا أردت أن تعتذر عن الشيخ، قُل: لعل الشيخ ينتظر بعض الطلاب الذين ما حضروا.

طالب: ...........

الذين ما بعد جاؤوا.

طالب: ..........

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

قال الإمام ابن كثيرٍ -رحمه الله تعالى-: "فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110] فَمَنِ اتَّصَفَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَخَلَ مَعَهُمْ في هذا الثناء عليهم والمدح، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا، رَأَى مِنَ النَّاسِ سُرْعَةً، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ، فليؤدِّ شرط الله منها، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ أَشْبَهَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:79]".

الشرط المذكور في الآية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان، وقُدِّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا شك لأهميته، فهو سبب تفضيل هذه الأمة على غيرها، وأما الإيمان فيشترك فيه المسلمون كلهم المؤمن، والمحسن، والمسلم البر والعاصي، كلهم يشتركون في أصل الإيمان، لكن القدر الزائد على ذلك وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُوجَد عند كل أحد، لكن هو شرط فضيلة تفضيل هذه الأمة على غيرها.

ومن أراد أن ينال هذه المزية فليعمل بشرطها، إن لم يعمل كما قال عمر أو غيره "وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ" كما في التفسير، من لم يتصف بهذا القيد بهذا الشرط الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "أَشْبَهَ أَهْلَ الْكِتَابِ" لماذا؟ {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ}[المائدة:79] نسأل الله العافية.

"ولهذا لما مدح تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، شَرَعَ في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أَيْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ قَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَمُبَشِّرًا لَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ، فَقَالَ تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}[آل عمران:111] وَهَكَذَا وَقَعَ، فَإِنَّهُمْ يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم، وَكَذَلِكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ كُلُّهُمْ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى بِالشَّامِ كَسَرَهُمُ الصَّحَابَةُ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، وَسَلَبُوهُمْ مُلْكَ الشَّامِ أَبَدَ الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الْإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالشَّامِ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مريم وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام وشرع مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}[آل عمران:112] أَيْ أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ أَيْنَمَا كَانُوا فَلَا يَأْمَنُونَ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِذِمَّةٍ مِنَ اللَّهِ".

جاء في بعض الروايات «فيقتل الجنزير ويقتل القرد» وذكر ابن حجر في (فتح الباري) وغيره هذه الرواية وتكلموا عليها.

 وعلى كل حال هي ثابتة، وأن عيسى يقتل القرد، أما قتل الخنزير فهذا في الصحيحين، والخنزير يستحله اليهود والنصارى؛ ولذلك إذا نزل عيسى لم يبقَ إلا الإسلام، فيكسر الصليب، ولا يقبل الجزية، ما فيه إلا الإسلام، ولا يقبل إلا الإسلام -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وعلى نبينا-.

إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِذِمَّةٍ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لَهُمْ، وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِلْزَامُهُمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أي أمانٌ منهم لهم، كَمَا فِي الْمُهَادَنِ وَالْمُعَاهَدِ وَالْأَسِيرِ إِذَا أَمَّنَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوِ امْرَأَةٌ، وَكَذَا عَبْدٌ، عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أَيْ: بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ، وكذا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسدي، والربيع بن أنس.

وقوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}[آل عمران:112] أَيْ أُلْزِمُوا فَالْتَزَمُوا بِغَضَبٍ من الله وهم يستحقونه {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}[آل عمران:112] أَيْ أُلْزِمُوهَا قَدَرًا وَشَرْعًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}[آل عمران:112] أَيْ: وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكِبْرُ وَالْبَغْيُ وَالْحَسَدُ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ والمسكنة أبدًا متصلًا بذل الْآخِرَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران:112] أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِ رُسُلِ اللَّهِ -وَقُيِّضُوا لِذَلِكَ- أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْثِرُونَ الْعِصْيَانَ لِأَوَامِرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْغَشَيَانَ لِمَعَاصِي اللَّهِ، وَالِاعْتِدَاءَ فِي شَرْعِ الله، فعياذًا بالله من ذلك، والله -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُسْتَعَانُ".

البداءة والاستهانة والاستخفاف بأوامر الله من الأقل، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} عصيانهم يحملهم إلى ما هو أعظم منه كما قيل: السيئة تقول: أختي أختي.

{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} لو انتهى الأمر على هذا العصيان أمره سهل، لكن إذا استمر عليه الإنسان ورأى أنه لا أثر له، حمله ذلك على ما هو أعظم منه.

بعد العصيان والاعتداء -نعوذ بالله- حملهم ذلك على الكفر بآيات الله، حملهم ذلك أيضًا على قتل الأنبياء، أمور قد يستبعد الإنسان أن الشخص يصل به الأمر إلى قتل نبي! لكنه يستخف في أول الأمر بالأمر اليسير، يعني مرَّ علينا في تراجم بعض رؤوس المبتدعة ما يُستغرَب، مَن يتصور أن مسلمًا يقول: لا إله إلا الله، يقول في يومٍ من الأيام: سبحان ربي الأسفل؟! إلا أنه قال قبلها كلمات كثيرة ترقَّى بها إلى هذا المقام.

الله -جلَّ وعلا- يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28] وابن عربي يقول:

ألا بذكر الله تزداد الذنوب
 

 

وتنطمس البصائر والقلوب
 

وما زال يُوجد من يُعظِّم الرجل ويدَّعي له الولاية، ويُدافع عنه من أول الأمر وحملوا هذا البيت على محملٍ لا يحتمله؛ لأنه واضح (ألا بذكر الله) الله -جلَّ وعلا- يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وهو يقول:

............. تزداد الذنوب
 

 

وتنطمس البصائر والقلوب
 

هم يقولون: ذِكر الله على اللسان فقط من دون مواطأةٍ للقلب، حملوا كلام ابن عربي على هذا، وفيه مصادمة صريحة لقول الله -جلَّ وعلا- وما زال أتباعه إلى الآن، وجاءني أوراق يردُّون عليّ؛ لأني استعرضت بعض كلامه في دروس المدينة، من ناس موجودين، يقولون: كلام ابن عربي هذا كلام لا تفهمه لا أنت ولا شيوخك ولا ابن تيمية، هذا كلام فوق ما تفهمونه أنتم، نسأل الله العافية.

الله -جلَّ وعلا- يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28] وهذا هو الواقع، ثم يقول:

ألا بذكر الله تزداد الذنوب
 

 

.............................................
 

هؤلاء {بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ترقَّوا بعد ذلك إلى الكفر، وقتل الأنبياء إلى غير ذلك من عظائم الأمور.

طالب: ...........

غُلاة المتصوفة الذين وصلوا إلى حد القول بوحدة الوجود، الذين يرون إيمان فرعون، وأُلِّف فيه كُتب إيمان فرعون، فضلًا عن إيمان أبي طالب، وإيمان... ورُدَّ عليهم -ولله الحمد-، قيَّد الله لهم من يرُد عليهم.

طالب: .........

إذا كان مقتنعًا بهذا الكلام فهو مثله.           

"قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ يقوم سوق بقلهم في آخر النهار".

الكلام الذي تقدم والذي دعا إليه {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران:112] يعني بدأوا بالأمر الخفيف، ثم انتقلوا منه على ما هو أشد منه وأعظم إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا، يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء.

طالب العلم والمسلم عمومًا لا سيما طالب العلم ينبغي أن يجعل له مجال للاحتياط، يجعل لنفسه مجالًا للاحتياط، فيحتاط كما ذُكِر عن سلف هذه الأمة أنهم يتركون تسعة أعشار الحلال؛ مخافة أن يقعوا في الحرام، لماذا؟ لأن الإنسان إذا استرسل فيما أباح الله له، ولا يقول أحد: إن هذا حرام؛ لأن الله أباحه.

إذا استرسل فيما أباح الله له دعاه هذا الحلال إلى مثله أو دعاه إلى نفسه في وقتٍ من الأوقات لا يجده بطريقٍ مباح مثل الشمس، وقد جرت نفسه عليه، تعوَّد عليه ما يقدر ينفطم منه، بحث عنه من وجوه الحلال الذي لا إشكال فيه ولا شبهة ما وجده، وجده في طريقٍ فيه نوع شُبهة، تجاوز هذه الشبهة؛ لأن نفسه لا تطاوعه في تركه؛ لأنه تعوَّد عليه، ثم بعد ذلك، قال: هذا مكروه، وهذا ما فيه إثم، لكن تركه فيه الأجر، نتجاوز هذا؛ لأن النفس تعودت عليه، ثم دعاه مرةً فلم يجده إلا فيما هو على خلاف ما يعتقده، ما نشأ عليه يراه محرَّمًا، ثم قيل له: إن فلانًا من الأئمة يرى أنه مكروه، قال: إمامٌ تبرأ الذمة بتقليده، ثم قليلًا قليلًا إلى أن يقف إلى طريقٍ مسدود ما فيه إلا محرَّم، ولا قال به أحد، وقد تعوَّد عليه ومردت نفسه عليه، ولا تستطيع فراقه، قال: الله غفورٌ رحيم، ثم ارتكبه، وهكذا يرتكب ما هو أعظم منه.

هذا الذي حدا اليهود ودعاهم إلى أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه، وإلا في الأصل هم مؤمنون بالله- جلَّ وعلا- وبرسولهم موسى، لكنهم تساهلوا، واسترسلوا، ومشوا مع المنكرات والمعاصي، ثم دخلت أمور الدنيا فيها، والله المستعان.

فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه ولو قيل عنه ما قيل؛ لأننا نسمع من استرسل... تصورون من طلاب العلم الذين يُشار إليهم وتولوا مناصب ومعروفين، إذا دخلت بيته الكلاب تغدو وتروح، والرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا نَقَصَ مِن أجره في كُلَّ يَومٍ قِيراطٌ» طيب ما فائدة هذا الكلب؟ إضافةً إلى أنه قد يحصل لك ولأطفالك ولأوانيك أمورٌ تُنجِّسها وتُبطل بعض عبادتك؛ لأنها نجسة، يمر بثوبك ويُحدِث عليه ما يُحدِث، وبإنائك كذلك، وبطفلك، ثم ما الفائدة؟!

فالاسترسال في مثل هذه الأمور وكل هذا مبعثه تقليد الكفار، الكفار يتعاملون معها على أنها مثل أولادهم، بل وُجِد من يُوصي لها من الأغنياء والأثرياء التركة تكون للكلب الفلاني بعده.

طالب: .............

وغير الزواج يُزَاول معه ما يُزاول مع الرجل، نسأل الله العافية.

لكن الكفار ما بعد الكفر ذنب، الإشكال فيمن يُقلِّد هؤلاء الكفار من المسلمين، ويُوجِد التآويل، مذهب مالك يُخفف من نجاسة الكلب، ومذهب كذا، ما أنت بحاجة إلى هذه الأمور، أنت معترف أنها نجاسة، ومشيت على هذا منذ وُلِدت، ما الذي غيَّرك تروح تبحث في المذاهب؟

ثم إذا تساهلت في هذا، تساهلت فيما هو أعظم منه، والله المستعان.

طالب: ............

صار بعض الناس يُمدَح بها، الإشكال من مُسِخَت فطرته صار يمدح من يقتنيه إن هذه حضارة، وهذا تقدم، ونحن ما نعرف هذه الأمور، أعرابنا يعرفون قبل ما يقرؤون ولا يكتبون، يعرفون الكلاب قبلكم، ويعرفون مفاسدها ومضارها، وعانوا منها، الله يتوب علينا.

اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا.

طالب: ..........

الآن فيه جهات تعاقب إذا قلت: هذا كلب، احترم نفسك. هذا واقع.

طالب: .............

تُعاقب إذا قلت: هذا كلب.

طالب: ماذا يُسميه هو؟

ماذا تتوقع؟

طالب: ولد ولا رضيع.

لا، ما هو برضيع، أكبر منه.

طالب: .............

الله المستعان الله يتوب علينا.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبك ورسولك محمد.